الرشوة طريق الهلاك والفساد إذا فشت الرشوة في مجتمع من المجتمعات فلا شك أنه مجتمع فاسد، محكوم عليه بالعواقب الوخيمة، وبالهلاك المحقق.
لقد تحمل الإنسان الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، والواجب على هذا الإنسان أن يؤدي الأمانة على الوجه الأكمل المطلوب منه لينال بذلك رضا الله تعالى وإصلاح المجتمع، أما إذا ضيعت الأمانة ففي ذلك فساد المجتمع واختلال نظامه وتفكك عراه وأواصره.
وإن من حماية الله تعالى لهذه الأمانة أن حرم على عباده كل ما يكون سببًا لضياعها أو نقصها؛ فحرم الله الرشوة وهي: بذل المال للتوصل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه، أو بإعفائه من حق واجب عليه، يقول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} [البقرة:188].
ويقول الله تعالى في ذم اليهود: {أكالون للسحت} [المائدة:42]. ولا شك أن الرشوة من السحت كما فسر ابن مسعود رضي الله عنه الآية بذلك.
الرشوة من الكبائر:
عد بعض العلماء الرشوة من الكبائر خاصة إذا كانت على الحكم، ومما يدل على أن الرشوة من الكبائر ما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي). ومعلوم أن اللعن لا يكون إلا على ذنب عظيم ومنكر كبير.
مجالات الرشوة:
لقد اقتحمت الرشوة الكثير من الجوانب في المجتمعات المختلفة حتى لم يكد يسلم منها مجال من المجالات، ولا سيما فيما يسمى دول العالم الثالث. فهناك الرشوة في الحكم، فيقضي الحاكم لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو يقدم مَن ليس من حقه أن يتقدم ويؤخر الجديرين بالتقدير والتقديم، أو يحابي في حكمه لقرابة أو جاه أو رشوة أكلها سُحتًا. كما تكون الرشوة في تنفيذ الحكم أيضًا.
والرشوة تكون في الوظائف أيضًا حيث يقوم الشخص بدفع الرشوة للمسؤول عن الوظيفة فيعينه رغم استحقاق غيره، وهذا بالإضافة إلى أنه أكلٌ للحرام والسحت، فإنه كذلك خيانة للأمانة؛ حيث ينبغي أن يوظف الأصلح والأكفأ: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص:26].
وكذلك تكون الرشوة في التعليم، وفي مجالات البناء والتشييد، وغيرها من المجالات التي يطول المقام بذكرها.
من آثار الرشوة وأضرارها:
إن لجريمة الرشوة آثارًا خطيرة وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، ويمكن أن نجمل بعضها فيما يلي:
1) توسيد الأمر لغير أهله:
إن الإنسان حين يدفع رشوة للحصول على وظيفة معينة لا تتوافر فيه مقوماتها وشروطها فهو ليس أهلاً لهذه الوظيفة، مما يترتب عليه قصور في العمل والإنتاج، وإهدار للموارد.
2) تدمير المبادئ والأخلاق الكريمة:
إن انتشار ظاهرة الرشوة في مجتمع من المجتمعات يعني تدمير أخلاق أبناء هذا المجتمع وفقدان الثقة بين أبنائه، وانتشار الأخلاقيات السيئة كالتسيب واللامبالاة، وفقدان الشعور بالولاء والانتماء، وسيطرة روح الإحباط.
3) إهدار الأموال وتعريض الأنفس للخطر:
فلو تخيلت أن الرشوة قد سادت في مجتمع حتى وصلت إلى قطاع الصحة وإنتاج الدواء، فكيف ستكون أحوال الناس الصحية حين يستعملون أدوية رديئة أُجيز استعمالها عن طريق الرشوة؟
ثم تخيل أنك تسير على جسر من الجسور التي بها عيوب جسيمة تجعل منها خطرًا على أرواح الناس وممتلكاتهم، وقد حصل المقاول على شهادات إتمام العمل والبناء عن طريق الرشوة، كم سيترتب على انهيار هذا الجسر من خسائر في الأرواح والأموال؟
وقس على ذلك جميع المجالات؛ لهذا كانت الرشوة إهدارًا للأموال وتعريضًا للأنفس للخطر.
الفرق بين الرشوة والهدية:
مما لا شك فيه أن الرشوة والهدية قد يشتبهان في الصورة لكن الفرق الرئيس بينهما هو في القصد والباعث على كل منهما حيث قصد الْمُهْدِي في الأساس استجلاب المودة والمعرفة والإحسان.
هل الهدية للحاكم رشوة؟
ذهب كثير من أهل العلم إلى أن أخذ الحاكم للهدية هو نوع من الرشوة؛ لما رواه الشيخان عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أُهدي لي. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه – أوفي بيت أمه – حتى ينظر أُيهدى إليه أم لا؟
والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت؟" مرتين).
قال النووي رحمه الله: في الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنه كان في ولايته وأمانته... وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة، وأما ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية فإنه يرده إلى مُهْديه، فإن تعذر فإلى بيت المال.
وقال ابن بطال: هدايا العمال تُجعل في بيت المال، وإن العامل لا يملكها إلا إذا طلبها له الإمام.
ما حكم المضطر للدفع؟
إذا تقرر أن الهدايا الممنوحة للموظفين على الصفة التي تكلمنا عنها سابقا هي نوع رشوة، فماذا يفعل صاحب الحق في مجتمع فشت فيه الرشوة، وفسد جهاز الحكم بحيث لا يستطيع صاحب الحق أن يصل إلى حقه إلا برشوة يدفعها لذي السلطان؟
لقد قرر العلماء في مثل هذه الحالة أن الإثم يقع على الآخذ ويبرأ المعطي من الإثم إن كان عطاؤه بغرض التوصل إلى حق أو دفع ظلم قد يقع على النفس أو الدِّين أو المال.
فيا أيها الحبيب إذا كان العلماء قد أفتوا بجواز الدفع عند الاضطرار مع إثم الآخذ ، أفلا يدل هذا على أن الرشوة نوعٌ من السرقة؟ بل قد تكون أقبح؛ لأنها تفسد ضمير ذي السلطان، وتجعله يهضم الحقوق من أجل مصلحة الراشي، وحينئذ يفسد جهاز الدولة ويصبح ألعوبة بأيدي المجرمين وأصحاب الأهواء الظالمين الذين بأيديهم أموال يبذلونها رشوة لمن بأيديهم الأمر من ذوي السلطان والمناصب العامة.
موقع مقالات اسلام ويب