دروس للشيخ إبراهيم الدويش || أزمان يستحب فيها إخفاء الأعمال الكتاب : دروس للشيخ إبراهيم الدويش
المؤلف : إبراهيم بن عبد الله الدويش
أزمان يستحب فيها إخفاء الأعمال
قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم: وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيئاً أبداً؟! الإجابة على هذا السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين عندما قال: فصل: قوله ولا مشاهداً لأحد فيكون متزيناً بالمراءاة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا فيه تفصيل أيضاً؛ وهو أن المشاهدة -والمشاهدة يقصد بها مشاهدة الناس لك أثناء العمل- فالعمل لغير الله نوعان: أولاً: مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه -تبعث على العمل أو تقوي هذا العمل- فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة، كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضاً من الآفات والحجب، أي: كما أن المشاهدة التي تجعلك تقطع العمل بتاتاً أيضاً هي من الآفات والحجب.
ثم يقول: ومشاهدة -أي أخرى- لا تبعث عليه ولا تعين الباعث، بل لا فرق عنده -أي: صاحبها- بين وجودها وعدمها، لا يهمه يراه الناس أو لا يراه، فهذه لا تدخله في التزين والمراءاة، ولا سيما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة.
يقول ابن القيم: إما حفظاً ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها، أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة، أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسناً إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص، أو قصداً منك للاقتداء وتعريف الجاهل، فهذا رياء محمود، والله عند نية القلب وقصده.
ثم يقول رحمه الله تعالى: فالرياء المذموم أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح، والرغبة فيما عند من ترائيه، أو الرهبة منه، وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك؛ فليس في هذه المشاهد رياء، بل قد يتصدق العبد رياءً وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر.
مثال ذلك يقول ابن القيم: رجل مضرور سأل قوماً ما هو محتاج إليه فعلم رجلٌ منهم أنه إن أعطاه سراً حيث لا يراه أحد لن يقتدي به أحد، ولم يحصل له سوى تلك العطية، وأنه إن أعطاه جهراً، اقتدي به واتبع، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية، فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين.
اهـ.
وينقل لنا الحافظ ابن حجر أيضاً في فتح الباري، لما تكلم عن صدقة الفرض وصدقة النفل، وهل الأفضل إعلانهما أو إخفاءهما، قال رحمه الله تعالى ينقل عن الزين بن المنير: لو قيل إن ذلك يختلف -أي الإخفاء أو الإظهار- باختلاف الأحوال لما كان بعيداً، فإذا كان الإمام مثلاً جائراً ومال من وجبت عليه -أي: الزكاة صدقة الفرض- مخفياً؛ فالإسرار أولى، وإن كان المتطوع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده، فالإظهار أولى.
اهـ.
ومن هنا نعلم أنه ليس دائماً تخفى الأعمال، بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى.
أخفياء ولكن!
يكثر في هذا الزمن الأخفياء، ولكنهم أخفياء من نوع آخر، أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم.
هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً) نعوذ بالله! يقول راوي الحديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم!) .
اسمع ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول: (ألا نكون منهم ونحن لا نعلم) !! فرحمك الله يا ثوبان ورضي الله تعالى عنك! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) .
أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح.
وأخفياء من نوع آخر، وهم المقصرون الفاترون، أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله، فقلت له مثلاً: ماذا حفظت من القرآن؟! وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟! أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يرى حاله على حقيقتها، فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه، وتقول له: ماذا قدمت للإسلام؟! وهل تنكر المنكرات؟! وهل وهل إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه؛ لأجابك هذا الشخص بقوله: هذا بيني وبين الله!! وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟؟!! انظر هو الآن يظهر لنا الإخلاص، لكنه يخفي الحقيقة ما هي الحقيقة؟! أنه قصّر في أعماله وأنه قد لا يكون عنده شيء، ولا حفظ من القرآن شيئاً وإن حفظ فالقليل، قد لا يكون قدم للإسلام شيئاً وإن قدم فالقليل القليل، وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة، فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك: هذا بيني وبين الله، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟!! فانظر كيف وقع هذا المسكين، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر، وما أكثر أولئك وللأسف، وهذا لا شك خداع للنفس، وتشبع بما لم يعط، وهكذا التصنع والتزين والتظاهر.
أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبداً أن يخفيها {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا.
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، واسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يقول: [فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله] .
ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين.