إخلاص النية وآثارها في قبول الأعمال
إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ،
مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ،
وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ،
ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
إخلاص النية وآثارها في قبول الأعمال
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على من اصطفى، وبعد:
قال تعالي: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
وعن عُمرَ بنِ الخطَّاب قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّة، وإنما لامرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانتْ هِجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأةٍ يتزوَّجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه))؛ البخاري في الإيمان، ومسلم في الإمارة.
قال النوويُّ في شرْح الحديث ما مختصره: "أجْمع المسلمون على عِظم موقع هذا الحديث، وكَثْرة فوائده وصحَّته، قال الشافعي وآخَرون: هو ثُلُث الإسلام، وقال الشافعي: يدخُل في سبعين بابًا من الفِقه، وقال آخرون: هو ربُع الإسلام.
فتقدير هذا الحديث: أنَّ الأعمال تُحسَب بنية، ولا تُحسب إذا كانتْ بلا نيَّة، وفيه: دليل على أنَّ الطهارة وهي الوضوءُ والغُسل والتيمُّم لا تصحُّ إلا بالنية، وكذلك الصلاة والزَّكاة والصوم، والحج والاعتكاف وسائِر العبادات". اهـ.
وممَّا ذكرْنا آنفًا يتبيَّن لنا أهميةُ النية في قَبول أو إحباط الأعمال، سواء كانت عباداتٍ أو معاملات أو أقوالاً، وأذكُر هنا أدلَّةً صحيحة مِن كلام من لا ينطِق عن الهوى؛ ليهلِك مَن هلك عن بيِّنة ويحيا مَن حيَّ عن بينة، والله المستعان.
الدليل الأول:
حديث أبي كَبْشَةَ الأنماريِّ أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ثلاثةٌ أُقسِم عليهنَّ وأُحدِّثكم حديثًا فاحْفظوه، قال: ما نقص مالُ عبدٍ مِن صدقة، ولا ظُلِم عبدٌ مظلمة فصبَر عليها إلا زادَه الله عزًّا، ولا فتَح عبد بابَ مسألة إلا فتَح الله عليه باب فقْر - أو كلمة نحوها.
وأُحدِّثكم حديثًا فاحفظوه، قال: إنَّما الدنيا لأربعة نفَر: عبد رَزَقه الله مالاً وعِلمًا، فهو يتَّقي فيه ربَّه ويصِل فيه رحمَه ويَعْلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزَقه الله عِلمًا ولم يرزقْه مالاً فهو صادقُ النيَّة، يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيَّته فأجرُهما سواء، وعبد رزَقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبِط في ماله بغير عِلم؛ لا يتَّقي فيه ربَّه ولا يصِل فيه رَحِمَه ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخْبثِ المنازل، وعبد لم يرزقْه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوِزْرُهما سواء))؛ حديث حسن صحيح، الترمذي في الزهد.
الدليل الثاني:
ما ثبَت في الصحيحين عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّ بالمدينة لرِجالاً ما سِرتُم مسيرًا ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكَم))، قالوا: وهم بالمدينة؟! قال: ((وهُم بالمدينة؛ حبَسَهم العذرُ)).
الدليل الثالث:
في الصحيحين أيضًا: عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجْر مِثل أجور مَن تبعه مِن غير أن ينقُص من أجورهم شيئًا، ومَن دعَا إلى ضلالة كان عليه مِن الإثم مِثلُ آثام مَن تبِعه، لا ينقص ذلك مِن آثامهم شيئًا))؛ واللفظ لمسلم، وشواهدُ هذا كثيرة.
واعلمْ أخي القارئ أنَّ مِن علامات الإخلاص في النية دوامَ العمل ولو كان قليلاً؛ لحديث عائشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِلَ: أَيُّ العمل أحَبُّ إلى اللَّه؟ قَالَ: ((أَدْوَمُه وإنْ قَلَّ))؛ مسلم في صلاة المسافرين.
واعلم أيضًا أنَّ من الناس مَن ينوي بعمله خيرًا فله الأجْر، ومِن الناس من ينوي بعمله شرًّا فعليه الوزر؛ لحديث ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِيما يَرْوِي عن رَبِّه - عزَّ وجلَّ - قال: إنَّ اللَّه كتَب الحسناتِ والسيئاتِ ثمَّ بيَّن ذلك، فمَن همَّ بحسَنة فلم يعملْها كتبها الله له عندَه حسنةً كاملة، فإن هو همَّ بها فعَمِلها كتبَها الله له عندَه عشر حسَنات إلى سبعمائة ضِعْف إلى أضعافٍ كثيرة، ومَن همَّ بسيِّئة فلم يعملْها كتبها الله له عندَه حسنةً كاملة، فإنْ هو همَّ بها فعملها كتبَها الله له سيِّئةً واحدة))؛ البخاري في الرقاق، ومسلم في الإيمان.
وهنا سؤال هام: هل النية الحسَنة تجعل المعصية مأجورًا عليها؟
والجواب: قطعًا لا، لماذا؟
لأنَّه لا عُذر لمن يفعل ذلك في ارْتكاب المعاصي والمخالَفات الشرعيَّة وتبريرها، وعدم الخوف مِن عُقوبتها بحُجَّة أنَّ القصد منها شريف، فإنَّه خطأ فادِح، وعليه أن يبادر إلى التوبةِ فورًا، ويُخشَى على مَن يقول بذلك أن يكون ممَّن قال الله تعالى فيهم: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103 - 104].
قال السعدي - رحمه الله - في تفسيرها ما مختصَرُه:
أي: قلْ يا محمَّد للناس - على وجه التحذير والإنذار -: هل أُخبِركم بأخْسَر الناس أعمالاً على الإطلاق؟ ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: بطل واضمحلَّ كل ما عملوه مِن عمل، يَحْسبون أنَّهم مُحسنون في صُنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنَّها باطلة، وأنها محادَّة لله ورُسله ومعاداة؟!" اهـ.
وما أجملَ قولَ الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل، إنَّ قومًا ألهتْهُم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسَنة لهم، وقالوا: نُحسِن الظنَّ بالله تعالى، وكذَبوا، لو أحْسَنوا الظنَّ لأحْسَنوا العمل"!
ويقول الغزالي في "الإحياء": "المعاصي لا تتغيَّر إلى طاعات بالنية، فلا يَنبغي أن يفهم الجاهلُ ذلك من عموم قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) فيظن أنَّ المعصية تنقلب طاعَة.
ويقول أيضًا: والنيَّة لا تؤثِّر في إخراجه عن كونه ظلمًا وعدوانًا، بل قصدُه الخير بالشرِّ على خِلاف مقتضى الشرع شرٌّ آخر، فإنْ عرفه فهو معاندٌ للشرع وإن جهِله فهو عاصٍ بجهْله؛ إذ طلَبُ العِلم فريضةٌ على كلِّ مسلم". اهـ.
عوامل تُساعد على إخلاص في النية:
وأكتفي هنا بأهمِّ ثلاث وسائل منعًا للإطالة، والله المستعان.
1- إصلاح السريرة والعلانية:
قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].
قال السعديُّ - رحمه الله -:
أي: لِم تقولون الخير وتحثُّون عليه، وربما تمدحتُم به وأنتم لا تَفْعلونه، وتنهون عن الشرِّ، وربَّما نزهتُم أنفسكم عنه، وأنتم متلوِّثون به ومتَّصفون به.
فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالةُ الذميمة؟ أم مِن أكبر المقْت عند الله أن يقول العبدُ ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمِر بالخير أن يكونَ أوَّل الناس إليه مبادرةً، وللناهِي عن الشرِّ أن يكون أبعدَ الناس منه؛ قال - تعالى -: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وقال شعيب - عليه الصلاة والسلام - لقومه: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88] اهـ.
قلتُ: ولا ريبَ أنَّ مَن عمِل لآخرته كفاه الله أمرَ دُنياه، ومَن أصلح ما بيْنه وبيْن الله أصْلَح ما بينه وبيْن الناس، ومَن أصلح سريرتَه أصْلَح الله علانيتَه.
2- الاستغفار والنَّدَم على ما فات:
قال - تعالى -: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [هود: 3].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عَن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَومِ سَبْعِينَ مَرَّةً))؛ الترمذي في تفسير القرآن.
ومِن الآية والحديث - أخي القارئ - نجد أنَّه لا مفرَّ مِن أخْذ خُطوة إيجابيَّة لصفاءِ النُّفوس، وإخلاص النيَّات لله، وبيان الحقِّ مِن الباطل، والصواب مِن الخطأ، والخير مِن الشرِّ؛ حتى لا يلتبس الأمرُ علينا، ونُدركِ أين مواضِعُ الخَلَل في قلوبنا ونُفوسنا، فإنَّ للطريق مزالقَ خَطِرة، والشيطان والنَّفْس الأمَّارة بالسُّوء وبالمرصاد لكلِّ جهد يُراد به تغيير النَّفْس وإخلاصها في الأقوال والأعمال لله تعالى.
3- العلم والتعلُّم:
أغلب عيوب وآفات النَّفْس وسوء النيَّة والقصد تأتي مِن الجهل بالحلال والحرام، ولو تفقَّه العبدُ في دِينه لاستطاع ترويضَ نفْسه وتقويمها على طاعةِ الله وإخلاص النيَّة له في أقواله وأعماله.
وفي القرآن والسُّنة في الحثِّ على العِلم والتعلُّم نصوص كثيرة، أذكر منها:
- قوله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
- وقوله - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
- ومِن السُّنة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا حَسَد إلا في اثنتين: رَجُل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكتِه في الحق، وآخر آتاه الله حِكمةً، فهو يَقضي بها ويُعلِّمها))؛ أخرَجه البخاريُّ في العلم (ح/73)، ومسلم في صلاة المسافرين (ح/816).
- وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجَنَّة))؛ وإسناده (صحيح) انظر حديث (رقم: 6298) في "صحيح الجامع" للألباني.
والحاصِل: أنَّ العلم والتعلُّم من أهمِّ الوسائل للثَّبات على المنهَج وإخلاص النيَّة لله تعالى كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، والله مِن وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
المصــدر :شبكة الألوكة